السودان بين الجنرال الانتهازي وأمير الحرب
📝 السودان بين الجنرال الانتهازي وأمير الحرب (متابعات ومعاتبات).

لعل من أكبر مخاطر بقاء السلطة في يد العسكر بدون أن يكون هناك وازع ديني أو منظومة أخلاقية تحاسب وتشرف على هذه السلطة ؛ هو ما نشاهده من بادرة حرب أهلية في بلد السودان الحبيب.
وأغلب الظن أن قارئ هذه السطور لا بد وأن يكون قد وصل إلى علمه ما تابعناه على مدار أيام في وسائل الإعلام من الاقتتال الحاد بين عناصر القوات المسلحة بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي .فكيف تطور الوضع ليصل إلى هذه الدرجة وما الذي تحمله لنا الأيام القادمة بين ثنايا هذه الاضطرابات المتتالية. هذا ما سنحاول استعراضه في هذه السطور.
- المجتمع السوداني المكونات والتركيب.
- الجيش السوداني مراكز القوة والولاءات.
- الأزمة الحالية تاريخ الصراع.
- الأزمة الحالية النتائج والأحداث.
- تطورات المشهد، الداعمين المصالح والأطماع.
- تطورات المشهد البيئة المحيطة والظروف المساعدة.
السودان له تاريخ عريق وتعد بلاد السودان من أقدم البلاد التي عرفت منذ نشأة التاريخ فنجد ذكر لهذه الأراضي في الحضارة المصرية القديمة وفي بداية حضارة فارس. ونظراً لموقعها المتميز؛ فهي تمثل بوابة أفريقيا، وأيضاً التصاقها بمصر التي طالما مثلت لاعباً أساسياً في أبرز الأحداث على مر التاريخ، لذلك اهتم المسلمون بدخول هذه البلاد ونشر الإسلام فيها منذ فجر الخلافة الراشدة، وبعد قرون تحول البلد بكامله الى بلد إسلامي.
السودان في العصر الحديث :
كما هو الحال في أغلب الأماكن ذات الطابع الجغرافي الغير متمدن والذي يصعب السيطرة على أراضيه الشاسعة كنجد وأطراف المغرب الإسلامي لم يخضع السودان لإدارة مركزية موحدة وإنما كانت تتحكم في كل منطقة سلطنة أو مشيخة وظل الوضع هكذا حتى قرر والي مصر محمد علي ضم السودان لسيطرته وعانى الشعب السوداني كما عانى الشعب المصري من هذه السيطرة لعدة عقود حتى حلت النتائج الكارثية باحتلال بريطانيا لمصر والسودان.
ونظراً للمساحة الكبيرة التي تتميز بها بلاد السودان أدى ذلك إلى وجود قبائل وأعراق مختلفة لكل منها مناطقها التي تعيش فيها حتى أصبحت علم عليها أو مناطق تتقاسمها مع مجموعات عرقية أو قبلية أخرى وكان لهذا العامل التأثير البالغ في هذه المرحلة وما تولد عنه من أحداث حتى وقتنا الحاضر. العامل الثاني والمؤثر أيضاً: بروز دور الطرق الصوفية التي مثلت الطابع الغالب لشكل التدين في هذه المنطقة قديماً، والمنافسات القوية بينها على تصدر الزعامة الدينية. – تفاصيل تنوع هذه المكونات وأماكن تواجدها وتأثيرها في هذا التقرير المرفق رابطه بالأسفل:
المشهد السوداني المكونات والفواعل – منتدى العاصمة (capitalforum.net)
أما اللاعب الأبرز في المشهد السوداني وهو الجيش فكما هو الحال في باقي الدول العربية والإسلامية فقد أسست هذه الجيوش الحديثة تحت أعين المحتل الأجنبي لرعاية مصالحه في المنطقة فكانت بداية تشكل الجيش السوداني بهذا الشكل الحالي الذي نراه في عهد الاحتلال البريطاني.[1]
وفي فبراير 1953 وقَّعت مصر وبريطانيا على اتفاقية للحكم الذاتي دخل بها السودان مرحلة انتقالية وبدأت سودنة القوات المسلحة بتعيين أول قائد سوداني للجيش في 14 أغسطس 1954. لذلك منذ الاستقلال ظل الجيش السوداني فاعلًا رئيسيًّا في المشهد السياسي حيث قام بـ 19 محاولةً انقلابية، منها 6 انقلابات نجحت بالفعل في الوصول إلى السلطة و3 انقلابات ساندت انتفاضات شعبية، أما الانقلابات الناجحة الأخرى كانقلاب النميري والبشير فقد استند كلاهما إلى قوى اجتماعية وسياسية مكنتهما من الحكم، فقد استند النميري إلى الشيوعيين في انقلابه ثم انقلب عليهم فيما بعد، وكذلك البشير خططت لانقلابه الجبهة القومية الإسلامية بقيادة الترابي ثم عندما حاولت الحد من صلاحياته عبر البرلمان حل البشير البرلمان السوداني واعتقل رئيسه د. حسن الترابي. [2]
ولابد من الانتباه إلى المكون القبلي في الجيش السوداني إذ أن معظم الضباط والقيادات من أولاد البحر خاصة قبيلة الشايقية والباقي من الدناقلة والجعليين في حين أن أغلب الجنود من الأقاليم النائية والمهمشة مثل “النوبة” و “الدينكا” و “الفور” و “البقارة” . [3]
وقد استغل البشير هذا الأمر حتى لا يكون أمر الجيش بيد رجل يمثل له تهديد أو منافسة فسمح بتشكل لوبيات داخل الجيش يلتف كل جناح حول زعيم ما؛ وهذا الزعيم يحاول دائما إحاطة نفسه بعناصر من قبيلته أو توجهه السياسي والفكري فأصبح الجيش أشبه بشركات عائلية متنافسة. – تفاصيل صعود وهبوط القادة وتحالفات وصراعات الجيش مع القوة السياسية والمؤامرات الداخلية والانقلابات في التقرير السابق –
وفي عهد البشير برز على الساحة عدة وجوه تدير المشهد من خلف الكواليس.
الوجه الأول:

علي عثمان طه والذي تولى ترتيب وضع ما بعد الانقلاب الذي قامت به الجبهة الإسلامية بقيادة الترابي وهو ماساهم في ترسيخ نفوذه الكبير في الجهاز التنفيذي للنظام، ثم تولى منصب نائب الرئيس بعد وفاة النائب السابق الزبير صالح في حادثة تحطم طائرته الخاصة.[4]
الوجه الثاني:

نافع علي نافع رجل الأمن الأول في السودان فهو الذي أسس جهاز الأمن العام وأداره ثم عُين مديرًا للأمن الخارجي، ثم مساعدًا لرئيس الجمهورية، ونائبًا لرئيس الحزب الحاكم حتى عام 2013، ويُعتبر من أكثر الشخصيات نفوذًا داخل جهاز المخابرات السودانية.[5]
الوجه الثالث:

صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات حتى 2009 ثم مسؤول مستشارية الأمن؛ وفي عام 2012 اُعتقل صلاح قوش على خلفية ترتيبه لمحاولة انقلاب على البشير وتولى التحقيق معه رجال نافع في جهاز الأمن. وفي بداية عام 2018 تصاعدت الأزمة الاقتصادية في السودان وبدأ انهيار العملة، بالإضافة إلى الانقسام داخل حزب المؤتمر الحاكم حول ترشح البشير في انتخابات 2020، كل هذه العوامل جعلت البشير في وضع حرج يهدد نظامه، فعين “قوش” من جديد مديرًا لجهاز المخابرات في ظل خبرته السابقة في القضاء على تنظيم الترابي، وهدف تعيينه لتصفية معارضي البشير داخل الحزب والرئاسة، وهو الأمر الذى نجح فيه “قوش” إذ أطاح بأبرز القيادات الموالية لـ “نافع” بجهاز الأمن والحزب ممن كان لهم دورٌ في اعتقاله من قبل، فعزل مدير الأمن السياسي اللواء عبد الغفار الشريف والذي قضى فترة طويلة داخل أروقة الجهاز السوداني وهو متهم بأنّه صاحب «بيوت الأشباح» لتعذيب المعارضين في فترات سابقة من عهد «حكومة الإنقاذ» إضافة إلى 17 من ضباط جهاز الأمن؛ بينهم مدير الجهاز بمطار الخرطوم الدولي وأطاح بـ “نافع” نفسه من آخر منصب كان يتولاه كأمين عام لمجلس الأحزاب الأفريقية في أكتوبر 2018. وجدير بالذكر أن قوش تربطه علاقة قوية بالولايات المتحدة الأمريكية لتعاونه معها فى الحرب على الإرهاب ضد تنظيم القاعدة. [6]
الوجه الرابع:

عوض بن عوف وزير الدفاع خلال مسيرته العسكرية عمل مديرا للاستخبارات العسكرية والأمن الإيجابي، ونائباً لرئيس أركان القوات المسلحة، وبعد تقاعده عام 2010، عين في وزارة الخارجية حيث تولى منصب مدير إدارة الأزمات قبل أن ينقل قنصلا عاما للسودان في القاهرة ثم سفيراً للخرطوم لدى سلطنة عمان، عام 2015 أصدر الرئيس السوداني عمر البشير مرسوماً جمهورياً بتعيين الفريق أول ركن عوض محمد أحمد بن عوف وزيرا لوزارة الدفاع الوطني. كان له ارتباط وثيق بالصراع في دارفور والقتال في اليمن. [7]
الوجه الخامس: محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي والذي سنبسط الحديث عنه لكونه الطرف الأول في الصراع الحالي على السلطة. تعود أصول حميدتي إلى قبيلة «الرزيقات» حيث يعمل بتجارة الإبل وحماية الرعاة من قطاع الطرق ما أتاح له فرصة التنقل في مثلث الحدود بين تشاد وليبيا ومصر، وتشكيل مجموعات مدنية لحراسة القوافل.[8] ولكن لم يظهر اسمه على خشبة المسرح إلا في فترة حدوث نزاع في دارفور في عام 2003 والذي أدى الى مأساة بمعنى الكلمة في هذا الإقليم الذي يقع غرب السودان وهي المنطقة التي ينحدر منها حميدتي؛ وفي هذه الحرب اكتسب حميدتي خبرته العسكرية حيث قاد مليشيات مسلحة من الجنجويد اتهمت بجرائم حرب حيث تسببت عملياتهم العسكرية ضد أطراف النزاع الأخرى إلى نزوح الملايين ومقتل ما يصل إلى 300 ألف شخص.[9] ومع تنامي دور هذه المليشيات والاحتجاج الدولي الذي لاقاه انخراط مثل هذه المجموعات في الصراع قام البشير بإضفاء الطابع الرسمي على المجموعة وحولها إلى قوات شبه عسكرية تعرف باسم وحدات استخبارات الحدود، ثم وفي عام 2007 أصبحت قواتها جزءاً من أجهزة الاستخبارات في البلاد.[10] ومع حلول عام 2013 تم إنشاء جهاز جديد تحت مسمى “قوات الدعم السريع” كانت هذه القوات هي المكون لها ونتيجة إعجاب البشير بقدرة حميدتي على إخماد التمرد في دارفور عينه قائداَ لهذ الجهاز ليصبح تحت صلاحيته بالكامل. ورغم هذه الرعاية والتدليل من البشير لم يحفظ حميدتي له الجميل فبعد تدفق المتظاهرين إلى شوارع الخرطوم في أوائل عام 2019 مطالبين بإطاحة البشير استغل هذه الأحداث لصالحه فسرعان ما تخلى عن البشير وقدم نفسه على أنه داعم للدمقراطية ولمطالب الشعوب بالتحرر من الحكم الظالم ثم اتحد مباشرة في صف وزير الدفاع بن عوف ومدير المخابرات قوش ليوقعوا جميعاً على ورقة إسقاط البشير وتنحيته عن الحكم وتحديد إقامته.
لكن بعد شهرين، في يونيو 2019، عندما رفض المتظاهرون المطالبون بالانتقال الفوري إلى الحكم المدني مغادرة موقع الاحتجاج، قادت قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي هجومًا وحشيًا حيث أحرقت قواته الخيام واغتصبت النساء وقتلت العشرات وألقي البعض في النيل، بحسب روايات عديدة لمتظاهرين وشهود وقال مسعفون سودانيون إن 118 شخصا على الأقل قتلوا وقتها .ونفى حميدتي أي دور له في أعمال العنف وغضب من وصف مقاتليه بالجنجويد رغم الدور الرئيسي للميليشيا في صعوده للسلطة وقال لصحيفة نيويورك تايمز:ˮالجنجويد يعني اللصوص الذين يسرقونك على الطريق.. إنها مجرد دعاية من المعارضةʻʻ. منذ ذلك الحين تطورت قوات الدعم السريع لتصبح أكثر بكثير من مجرد رعاع مسلحين مع وجود حوالي 70 ألف مقاتل حسب بعض التقديرات، تم نشر القوة لسحق التمرد في جميع أنحاء السودان وللقتال من أجل المال في اليمن كجزء من التحالف الذي تقوده السعودية كما جعلت الحرب الجنرال حميدتي ثريًا جدًا، وله مصالح في تعدين الذهب والبناء وحتى شركة تأجير سيارات الليموزين كما برز كسياسي يسافر عبر منطقة القرن الأفريقي والشرق الأوسط للقاء القادة وتطوير علاقات وثيقة مع موسكو بحسب الصحيفة.[11]
وبعد الإطاحة بالبشير تغير المشهد تماماً لترسم خريطة جديدة في موازين القوة والنفوذ، ففور إبعاد البشير عن المشهد وتحديد إقامته أعلن وزير الدفاع ابن عوف عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى شؤون الحكم لمدة زمنية؛ وسريعاً خرجت الدعايا والتصريحات التي تثني على دور العسكر وتمجد جهود المخَلﱢصين الثلالثة ابن عوف وقوش وحميدتي، ولكن القدر أو لربما المؤامرات وشراء الذمم أو من الممكن الدعم والتدخل الخارجي أياً يكن السبب المهم أنه أحضر لنا مفاجأتين، المفاجأة الأولى رفض حميدتي المشاركة في هذا المجلس ، المفاجأة الثانية والأشد غرابة تنحي ابن عوف عن رئاسة المجلس بعد يوم واحد من تشكيله وتقديم استقالته تبع ذلك عزل نائبه كمال الماحي ثم مدير المخابرات صلاح قوش والذي كان يرتب الوضع لنفسه مع أجهزة المخابرات العالمية والموساد بإشراف مصري خليجي ليحل محل البشير[12]؛ ليظهر على مسرح الأحداث وجه جديد لم يعرف له تأثير من قبل في أي من معارك الطواحين الدائرة ليشكل تقديم رئاسة المجلس العسكري له على طبق من ذهب حدثاً له مابعده في رسم مستقبل السودان ويظل لغزاً محيراً لعل هذه الحرب بينه وبين الطرف الأول حميدتي تكشف عن حل هذا اللغز أو ربما لا تسنح هذه الفرصة إلى للأجيال القادمة عند فتح صناديق الأسرار في شهادة الشهود على هذا العصر أو كتابة المذكرات من قبل الفاعلين في المشهد تأسياً بمن قبلهم.
لكن دعونا الأن نسلط الضوء على الجانب المعلن عن الطرف الثاني في الصراع رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان وكيف وصل الأمر بينه وبين حميدتي- الذي عين نائباً له فور توليه رئاسة المجلس، الذي رفض الانضمام له من قبل – إلى مفترق طرق أدت لهذه الحرب التي لاتسمح إلا لواحد فقط بالبقاء.
ترجع جذور البرهان إلى ولاية نهر النيل الواقعة إلى الشمال من العاصمة الخرطوم، ولد في عام 1960 في قرية قندتو في أسرة دينية تتبع الطريقة الختمية، وهي إحدى الطرق الصوفية الكبرى في السودان ، وتخرج البرهان في الدفعة 31 من الكلية الحربية، وعمل ضابطاً في قوات المشاة، وغيرها من وحدات الجيش. وشارك في حرب دارفور، وكذلك المعارك التي سبقت انفصال جنوب السودان عن شماله، تدرج في الرتب العسكرية وتولى عدة مناصب متنوعة منها ملحقاً عسكريا في الصين، وقائداً لقوات حرس الحدود، ورئيس أركان عمليات القوات البرية، ثم رئيس أركان القوات البرية، بعد ذلك أصبح قائداً للقوات البرية، وفي فبراير 2019، أعلن البشير عن تعديلات في قيادات الجيش، شملت ترقية البرهان من رتبة فريق ركن إلى فريق أول، وتوليه منصب المفتش العام للقوات المسلحة، وانتُدب البرهان في مصر والأردن لعدد من الدورات التدريبية. وكان يتنقل مؤخرا ما بين اليمن والإمارات العربية المتحدة وقد يكون هذا هو السبب في الدعم الخليجي له ومساعدته على تصدر مشهد الزعامة كجائزة له فقد أشارت بعض التقارير إلى أن البرهان أشرف على مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن، ضمن التحالف بقيادة السعودية بالتنسيق مع قوات الدعم السريع؛ وأما الاحتمال الثاني فقد تكون الإمارات رأت فيه قط وديع لن يشكل حجرة عثر في طريق رجلها حميدتي فاستغلته لإبعاد غيلان العسكر المتنفذين داخل الدولة والجيش، وأما الاتجاه الآخر فيرجع الأمر إلى تمتع البرهان بقبول شعبي وتوافق من الأطراف السياسية في البلاد فقد وصفه عدد من زملائه بأنه شخص يتسم بالاعتدال وظل عسكرياً ملتزما بعيداً عن الانتماء إلى أي تنظيم سياسي.[13]
في هذه الفترة الانتقالية ومع اضطراب الأوضاع حاول المجلس العسكري أن يمهد الطريق لنفسه لحكم البلاد فدفع أنصاره إلى الخروج في مظاهرات تطالب بتوليه السلطة وإدارة البلاد؛ لتظهر أول شرارة عدم التوافق بين حميدتي والمؤسسة العسكرية التي طالما رأته دخيلاً عليها ولعله فطن لهذا الشعور مبكراً فعلم أنهم سيسارعون في التخلص منه إذا تمكنوا من الحكم في هذه الفترة لهذا صرح مباشرة أن الجيش لايسعى للسلطة ليشجع الأطراف الأخرى للتصدي لهذه الدعاوي ويؤجل هذه الخطوة إلى حين جمع قوته وترتيب أموره وبناء شبكات موالية له في جميع المجالات.
ورغم اللهجة الحادة التي كان يتعامل بها الجيش فقد خفض من وتيرة أطماعه بعد المعارضة التي لاقاها ونزل على مطالب الأطراف الأخرى لتشكيل قيادة مشتركة من المؤسسة العسكرية والمكونات السياسية والمجتمعية الأخرى، ولكن نتيجة إخفاق هذه الإدارة في حل الأزمة والتقدم بالدولة إلى الأمام مع الاختلاف في الرؤية بين المكونات المتنوعة والأحزاب المتنافسة استغل الجيش هذا الأمر لصالحه ليطيح بالمكونات الأخرى ويتصدر البرهان وحميدتي المشهد بدون منازع –أبرز الأحداث والمحطات ودور الكيانات المؤثرة في هذه الفترة والصراعات السياسية مذكور في التقرير السابق-
بعد تفرد البرهان وحميدتي بالسلطة بدأ سباق النفوذ والسيطرة على الثروة الاقتصادية للبلاد بين المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع ورغم المكاسب التي حققها كلا الطرفين والأموال التي دخلت خزائنهم من تقاسم خيرات البلاد إلا أن الطمع جعل كل فريق يرى أن عليه الاستبداد بجميع الثروات لحماية مصالحه، ومع تنامي علاقات حميدتي خارجياً وعقده صفقات بيع وشراء مع الدول وشركات المافيا العالمية خصوصاً الثروة الناتجة عن مناجم الذهب التي يسيطر عليها الأمر الذي جعل الجيش يدرك خطورة بقاء قوات غير تابعة له في خروج السيطرة على البلاد من تحت يده وعدم تحكمه في القرار السياسي فسارعت بإصدار قرار بضم قوات الدعم السريع للجيش وتوزيعها على وحداته المختلفة الأمر الذي أشعل فتيل الاقتتال الحالي لرفض حميدتي لهذا القرار.
بعد تيقن قادة الجيش من عدم جدوى الاستمرار في مفاوضات الدمج، والمكتسبات الكبيرة التي حققها حميدتي على المستوى الشخصي ولقواته منذ عزل البشير لن يتخلى عنها لرغبة بعض الأطراف بتحييده، فهو يرى بحسب تعبيره “أنَّ وصوله للسلطة أمرٌ لا بُد منه، وإلا فستضيع البلاد”.ومع تفاقم حدة الأزمة أواخر فبراير الماضي حشد حميدتي قرابة 30 ألف مقاتل إضافي إلى قواته بالخرطوم تحسبًا لأي تحركات من الجيش، واستمر بنشر قواته في الأماكن الحيوية متجاهلا طلبات قيادة الجيش برجوع القوات إلى أماكنهم وهو ما اعتبره قادة الجيش تحدّيًا لهم لا يمكن السكوت عنه، وأنَّه حانت اللحظة لتقليم أظافر حميدتي وفرصة لإنهاء الازدواجية العسكرية والقضاء على الدعم السريع. قرار المواجهة اتخذته قيادات الجيش منذ مارس الماضي على أقل تقدير وانعكس فعلًاً في التحركات على الأرض، تحركات حميدتي التي سبقت بدء المواجهة، هدفت إلى السيطرة على القواعد الجوية الرئيسية للجيش لضمان عدم مشاركتها وهو ما حدث بالفعل فسيطر على قاعدة مروي وجبل أولياء ومطار الخرطوم. وإثر فشل محاولات منع القتال بدأ الجيش بمهاجمة مقرات الدعم السريع في العاصمة وخارجها واستخدام الطيران الحربي لقصف معسكراته.[14]
ونتيجة عدم توقف القتال أعلن الجيش أن الدعم السريع حركة متمردة لتتحول ساحة الخرطوم لحرب مفتوحة طوال عشرة أيام؛ أدت إلى تدمير المباني المهمة وتعطل الحياة العملية والخدمات وهجرة بعض السكان من أماكن الاقتتال مادفع دول كثيرة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لإجلاء رعاياها وموظفيها وإغلاق سفاراتها؛ لتدخل السودان مرحلة جديدة من العزلة إلا من قنوات الاتصال العسكرية والمخابراتية التي يسعى أصحابها لتسيير الدفة في اتجاه مصالحهم.
وبسسب استهداف المطارات من قبل قوات الدعم السريع كما تحدثنا سابقاً أصبحت عملية إجلاء الأجانب أكثر صعوبة وأبطئ إلى حد ما مما زاد من حنق المجتمع الغربي على حميدتي خصوصا المنظمات الحقوقية ولا ننسى سمعته السيئة في هذا الجانب، أيضاً تخوف النظام المصري من التصريحات العدائية لأتباعه تجاه دور مصر وتدخلها في الشأن السوداني رجح كفة البرهان ليكون الخيار الأنسب كشريك لمصر في المستقبل؛ ويرى البعض أن الذي كبح التدخل المصري ودعم البرهان مباشرة ؛ هو تعارض المصالح المصرية الإماراتية وقد يكون هذا هو السبب وراء زيارة ابن زايد المفاجأة لمصر في بداية توتر الأحداث، ومع الخوف من فقد الدعم المالي حرصت مصر على عدم إغضاب الطرف الخليجي.[15]
ولكن على النقيض الآخر ومع ارتباط حميدتي بعلاقات قوية مع مرتزقة فاغنر وشركات المافيا الروسية نتيجة التجارة المشتركة للذهب الذي يسيطر عليه[16]؛ وأيضاً تأثيره الممتد إلى البلاد المحيطة ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى والتي تمثل ساحات لعمل مرتزقة فاغنر[17] فقد يكون هو الخيار المفضل لروسيا لكي تثبت قدمها في المنطقة ويكون لها منافذ على البحار الدافئة وحركة الملاحة البحرية.
ومع الضوء الأخضر من الإمارات باعتباره رجلها الأول في المنطقة فقد تقف الإمارت وراءه بدعم لا محدود لتحقيق حلمها المنشود في التوسع خارجياً خصوصاً مع سيطرتها على بعض الموانئ والجزر في اليمن ليمثل السودان بوابة اتصال اليمن بإفريقيا وتسهيل رحلاتها التجارية، الأمر الذي قد يسبب قلق للسعودية شريك الأمس وغريم اليوم ومع الخوف من خسارة مصالحها في اليمن والحد من نفوذها لصالح الإمارات الأمر الذي يدفعها للوقوف في صف البرهان؛ خصوصاً مع ما ذكر من أن أول الطائرات التي استهدفت في مطار الخرطوم من قبل الدعم السريع هي تلك التابعة للخطوط الجوية السعودية.
ومع طول الأمد المتوقع لهذا الصراع وبسبب الاضطرابات في البلدان المجاورة فقد تتشكل بيئة خصبة لزحف الجماعات الإسلامية المسلحة إلى المنطقة، كتنظيم الدولة الذي ينشط في منطقة غرب أفريقيا ولديه سيطرة كبيرة في أراضي نيجيريا التي لا يفصلها عن السودان غير دولة تشاد المفككة داخلياً، أو تنظيم القاعدة والذي يضم فرعين قويين لهما كيان قائم يقترب من وصفه كدولة ؛ الفرع الأول حركة شباب المجاهدين والتي تسيطر على أغلب الصومال البلد الذي لا يفصله عن السودان غير دولة أثيوبيا الحافلة بالصراعات والنزاعات؛ أما الفرع الثاني هو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لفرع قاعدة المغرب الإسلامي والتي تسيطر على جزء كبير من مالي ومنطقة الساحل والصحراء الكبرى ولها نشاط في النيجر الواقعة على حدود تشاد أيضاً، ولا ننسى أيضاً جذور القاعدة التاريخية في السودان عندما استقبلت قائدها ابن لادن بعد خلافه مع السعودية اثر عودته من الحرب ضد السوفييت في أفغانستان مما ساهم في بناء علاقة مع شعب السودان الكريم المضياف ولذلك عمل ابن لادن على رد الجميل من خلال تطوير المنطقة المقيم فيها وإنشاء االطرق وتوفير الخدمات على نفقته الخاصة ليرفع مستوى الحالة المعيشية في البلاد. كل ما سبق قد يلقي باللوم على قيادة القاعدة من قبل أنصارها لتراجعها عن الأخذ بزمام المبادرة ولعب الدور المنتظر منها في التفاعل مع قضايا الأمة المصيرية. وقد يتسائل البعض هل هذا التراجع نتيجة صدمة نفسية تلقتها القاعدة في سوريا والعراق إثر انشقاق أكبر الفروع أهمية لها من حيث التأثير في المشهد والتي كانت تمثل الطريق المباشر لتحرير القدس حسب رؤيتها؛ دولة العراق الإسلامية ثم من بعدها جبهة النصرة، أم هذا التراجع نتيجة الحفاظ على المكتسبات في أطراف العالم الإسلامي وتجنب الدخول في حرب طاحنة عند الاقتراب من المركز، لكن المتابع يجد أن هذا الانحياز لم يجنبها الحرب المعلنة عليها عالمياً بدليل تصفية أكثر قادتها.
ويبقى السؤال هل تسمح القوى الإقليمية والعالمية وفي مقدمتهم أمريكا -التي سعت لفرض عقوبات على كلا الطرفين لتجبرهم على وقف القتال- بوصول المشهد إلى هذا التوقع أم تتوافق فيما بينها لتحمي مصالحها وتمنع من وقوع تلك الثروات في أيدي الجماعات الإسلامية وتجنب بلادها تبعات الصراع من نزوح وهجرة غير منظمة إضافة إلى تأمين حدود قطتها المدللة مصر لتضمن استقرار الكيان الغاصب. أم تتحول السودان لساحة حرب باردة بين القوى العالمية.
وحتى اذا تمكن أحد الطرفين من حسم الصراع لصالحه فمن الممكن أن يؤدي ماجرى من اقتتال إلى تداعيات خطيرة وتحرك مجموعات أخرى من الشعب أو من الحركات المسلحة في أماكن أخرى[18]. وقد تستغل نفس هذه المجموعات أو قوى شعبية أو سياية أخرى الوضع الراهن لتقرر مصيرها بنفسها بعد رؤيتها تناحر القوى المسيطرة وعدم اكتراثها بغير مصلحتها الشخصية.
[1]) كنت رئيساً لمصر، الجزء الأول، محمد نجيب
[2]) المشهد السوداني المكونات والفواعل، منتدى العاصمة، اسلام خليفة
[3]) المصدر السابق
[4]) المصدر السابق
[5]) المصدر السابق
[6]) المصدر السابق
[7]) من هو الفريق عوض بن عوف رئيس “المجلس العسكري الانتقالي” في السودان، ب بي سي عربي
[8]) المشهد السوداني المكونات والفواعل، مصدر سابق
[9]) حميدتي تاجر الجمال الذي يسعى للسيطرة على السودان، وكالة شهادة الإخبارية
[10]) الجنرالان المتنافسان على السودان.. نظرة على ساحة القتال، وكالة شهادة
[11]) حميدتي تاجر الجمال، مصدر سابق
[12]) المشهد السوداني المكونات والفواعل، مصدر سابق
[13]) عبدالفتاح البرهان: من الظل إلى قيادة المجلس العسكري الانتقالي في السودان، ب بي سي عربي
[14]) آفاق المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منتدى العاصمة، اسلام خليفة
[15]) قراءة في الموقف المصري من الصراع في السودان، أحمد مولانا، قناة يوتيوب
[16]) المرتزقة الروس في السودان ما هو دور مجموعة فاغنر، وكالة شهادة
[17]) حميدتي تحت أنظار المخابرات الأمريكية، منتدى العاصمة
[18]) قراءة في الموقف المصري، مصدر سابق
🖋 كتبه/ عبد الرحمن سليم
صانع المجد

0 تعليق