عن علم النفس
📝 هل جربت أن تقرأ عن علم النفس وليس فيه.

من عادة الناس، والمتخصصين في مجال علم النفس تحديداً، بأن يقرأوا في علم النفس، ولكن قليل جداً ما نقرأ عن علم النفس وليس فيه، ما الفرق إذاً بين القراءتين؟ سأقول لك، عندما تقرأ ما يقوله علم النفس بعرض اعمال رواده وباحثيه على شكل فرضيات او نظريات او تطبيقات عملية لها، فهذه قراءة في علم النفس، فتعرف ما يقوله رواد هذا العلم، وما يقدموه من خلال تطبيقاته، لكنك إذا كنت باحثاً واردت ان تتوسع وتعرف كيف يتم النظر الى هذا العلم، وماذا يقال عنه، وكيف وجد من الأصل، وكيف يتم بناء اطاره النظري، وتصدير فرضياته، وفحص نظرياته، وكيف يتم الإفادة من كل ذلك من خلال تحويل النظرية الى تطبيقات عملية، فأنت تقرأ عن علم النفس وليس فيه، اي فيما يقال عنه من حيث بنائه وبنيته، كأنك تنظر نظرة من بعيد على الشكل العام والتكويني.
اذكر ان اول قراءة هامة وعميقة لي عن علم النفس وليس فيه كانت في بدايات عام ٢٠٠٠ اثناء دراستي في كلية الدراسات العليا، حيث كان في احد الفصول الدراسية مادة كانت من الاكثر تعقيداً وهي مادة التعلم والمعرفة، ورغم اسمها الذي يبدو تربوياً، لكنها كانت مادة علمية جادة جداً، وفيها اطار نظري قوي، فمبحثها حول النظرية السلوكية كنظرية تعلم، والنظريات المعرفية كنظريات معرفة، هو مبحث من منظورٍ من جوانب عصبية سيكولوجية سلوكية، وكيف يحصل التعلم السلوكي المعرفي من الأصل لدى الإنسان، وما هي الاسس العصبية لذلك بحسب علم الاعصاب وعلوم الدماغ، ورغم مدى لطافة وكفاءة مدرسها البرفسور يعقوب خلّاد المتخصص في هذا الموضوع تحديداً في ذلك الحين، الا انها بقيت من اصعب المواد والاكثر تعقيداً، وما لفت نظري ان الوحدة الأولى في حلقات البحث – في الدراسات العليا يُعتمد نظام حلقات البحث في التدريس – كانت اول وحدة تناقش موضوع ( الارادة الحرة في السلوك ام الحتمية؟ ) وهذه كانت اول مرة لي اطلع على شيء يتحدث عن علم النفس بهذه الطريقة، والتي من خلالها – اي الوحدة الأولى – عرفت ان علم النفس يكاد يكون مذهبياً حتى في نظرته للسلوك الإنساني، لقد كانت الوحدة الأولى من اطول الوحدات، ودرسنا فيها ثلاث مقالات وعدة اوراق علمية، وكانت كل منها تناقش السلوك، وهل ما يصدر منا يمكن القول بأنه صادر عن إرادة حرة، ام انه محكوم وجبري وحتمي لأسباب مختلفة؟
بعد ٢٢ سنة عادت تلك المقالات الى ذهني اثناء محاولتي للكتابة (عن علم النفس) ومحاولة تفسير اللغط الحاصل فيه في الوسط العربي تحديداً، وتكمن اهمية موضوع الارادة الحرة او جبرية السلوك وحتميته في فهم المدارس النفسية الرائجة ذائعة الصيت، بالتعرف على اطارٍ مذهبي حاكم واساسي في البناء النظري، وبالتالي فهم مقاصد العلاج النفسي التطبيقية والنابعة عن كل مدرسة نفسية، فحين ترى ان مدرسة التحليل النفسي والمدرسة السلوكية المتناحرتان نظرياً تؤكد كل منهما على حتمية السلوك وانها اساس تصرفاتنا، فسلوكنا من منظور هذه المدارس جبري يأتي كردة فعل لابد من حصولها لظروف واحوال تفرض حتمية نتائج سلوكية، او مثيرات وتنشئة كما في المدرسة السلوكية.
وفي المقابل ترى مدرسة علم النفس الإنساني او المدرسة الوجودية أن الإرادة الحرة هي ما يميز سلوك الإنسان، فمهما كانت الظروف والمحيط والمثيرات، يبقى الإنسان مالكاً حقيقياً لنفسه وتقرير طبيعة ردات فعله وسلوكه ككل، فلا نتائج حتمية، ولا اعتبارات نهائية لسلوك الإنسان، فهو الذي يحدد هويته وذاته وماهيتها وكيف يريدها ان تكون، وكيف يرى الحياة ويمنحها المعنى.
ان منظور الحرية مقابل الحتمية الجبري وهو بالمناسبة من ثنائيات افلاطون في الأصل التي كان يمارس خلالها رفاهه الفكري الفلسفي، الا انها لم تعد للرفاه في ايامنا هذه، ودخلت في باب الأُحادية فقد غاب عن اذهان الكثيرين اهمية معرفة منطلق المدارس النفسية بين الحرية والحتمية، والذي بحد ذاته لو تم توضيحه لتسبب ذلك بحل اشكال كبير حاصل في سوء فهم حقيقة المدارس النفسية، وتطبيقاتها العلاجية على وجه التحدي، وخاصة في الأوساط العلمية العربية.
ان تأثير (الحرية – الحتمية) السلوكية يقع في النقطة المرجعية للمذاهب النفسية، فحين نعود للمدرسة الحيوية في علم النفس والتي خرج نتيجة فرضياتها ونظرياتها وابحاثها ودراساتها تطبيقات الطب النفسي وعلم النفس السريري، نجد ان ردائها الاساسي هو الحتمية السلوكية المعتدلة، وترى ذلك من خلال المنظور الذي تحمله اتجاه السلوك المرضي تحديداً، فهي تعتدل من خلال رؤيتها بان السلوك السوي يقع ضمن إرادة حرة في غالبه مع محدودية ايضاً، بينما يقع السلوك المرضي المضطرب ضمن حتمية وجبرية، لطبيعة ما يتسبب به السلوك المرضي من آثار سلوكية تجعل له عوارض ومظاهر مميزة، وهذا ما يجعل هذه المدرسة تبحث في الاعراض المميزة لكل اضطراب نفسي، كون الاضطراب بشكلٍ حتمي يتميز بعوارض تتشابه في غالبها بين المصابين بهذا الاضطراب ويتمايز بشكله ان كان اكتئاباً او قلقاً او غيرها من الاضطرابات النفسية.
اما في حال الارادة الحرة وهي مذهب حرية الاختيار والسلوك الذي يشكل نقطة مرجعية للمدرسة الانسانية وحتى الوجودية والتي للأسف لا تتميز باعتدال المنظور كما في المدرسة الحيوية في علم النفس، فهذه المناهج متطرفة في مذهبها المعتقد بالإرادة الحرة، والتي صارت تشكل الآن الإطار الفلسفي للفكر السيكولوجي الغالب، فنجد ان المدرسة الانسانية تنظر الى الإنسان على انه حر الاختيار، وان المرض حتى جاء خياراً للإنسان، مع عدم اعتراف المدرسة الإنسانية بالاضطرابات النفسية كزملات ومحاور ومعايير تشخيص، حيث ان منظورهم وصفي عام للمزاج بأن يوصف الشخص بأنه مكتئب او قَلِق، لكنهم يرفضون التشخيص اصلاً، ويرفضون الوصف بالمرضي جملة وتفصيلاً، وينظرون للإنسان من خلال ذاته التي تعتبر المركزية في منظورهم وعملهم، وبالتالي فالذات قررت واختارت بإرادتها الحرة.
اذاً يكمن اهم أسباب تشتت اراء المتخصصين في المجالات النفسية في المذهبية النفسية للمدارس النفسية، والنقطة المرجعية الاساس في ذلك هي ثنائية الحرية – الحتمية السلوكية، فبينما نرى تصور المذهبية الحتمية للمرض النفسي واضح ومعياري ويسير ضمن محكات تشخيصية مفهوم فيها ان المرض ما كان اختياراً، وحتى لو أدى سلوك الإنسان لحدوث حالة مرضية فهو الآن كمن وقع وكسرت قدمه، وستحتاج كمعالج للتعامل مع القدم المكسورة بطريقة علاجية تتفهم خلالها انها حالة مرضية جادة، يأتي اصحاب مذهب الحرية السلوكية بمنظور يساوي بين القلق التكيفي والقلق المرضي، والاكتئاب الاستجابي والاكتئاب الأساسي، وغيرها من المظاهر النفسية، وبالتالي لا يوجد تصور للحالة المرضية النفسية، فتحمل الحالة النفسية على أنها حالة من نقص في الارادة او توفر النية او الدافع المناسب او المعنى، وكل ذلك يتعزز بسبب احباط او سوء تقدير او غيره مما يجعل الاضطراب وكأنه حالة صنعها الإنسان وضمن إرادة الإنسان الحرة، ولولا ذلك لما صعد كارل روجرز بذاته واعتلى منبر الخطابة في الجمعية الأمريكية لعلم النفس وهو يقدح في الطب النفسي بعد انتحار احدى المريضات المشهورات (آلين ويست) حيث يظن انها انتحرت لأنها لم تراعى في حرية خياراتها وانسانيتها، بالرغم من انها كانت تعاني من اكتئاب ذهاني حاد.
ان مذهبية علم النفس تشكل معضلة كبرى، خاصة عندما يكون المتحدثون عنه وفيه لا يدركون ما فيه وما عليه، فيتم خلط الافتراضات والنظريات للمدارس النفسية رغبة في صناعة تكامل، ورغم ان ذلك قد يبدو مقبولاً كافتراض، لكنه كحيل خداع البصر، لا يعكس الحقيقة رغم انك تراه بعينيك التي تصر على ان تراه على غير حقيقته، فهذا الافتراض يتجاوز النقاط المرجعية المؤسسة للمدارس النفسية ومذهبيتها، فيؤدي الخلط الى أشكال كبير في التصورات النفسانية، والتي تنعكس على الممارسات التطبيقية خاصة في مجال الإرشاد والعلاج النفس والطب النفسي والتأهيل النفسي.
قبل ايام قمت بتجربة هدفها رصد طريقة المتخصصين المتصدرين للإرشاد والعلاج النفسي في التعامل مع المعضلات العلاجية، وهو شيء اقوم به مع طلابي في برنامج العلاج المعرفي السلوكي التطبيقي والإشراف السريري، ولكن هذه اول مرة اقوم به على العام، لقد كانت المفاجئة الكبرى ان المستجيبين على المعضلة العلاجية قام غالبهم بإعطاء توجيهات ونصائح مباشرة لما يجب عمله وكيف يجب التعامل مع الحالة، لكن الاغرب انه لم يسأل أحد عن التشخيص المرضي للحالة المعروضة، اي ان الجميع تعامل مع بعض المظاهر المذكورة عن الحالة واكتفى بها لكي يعطي وجهة نظر كيف يجب ان يتم التعامل والعلاج، والمعضلة العلاجية كانت لحالة اكتئاب حاد مرافق بمعالم ذهانيه طفيفة، وهذا النوع من الحالات سيتعرض لتفاقم المعالم الذهانية في حال خضع للعلاج النفسي قبل أن يخضع للعلاج الدوائي الذي يعتبر خط العلاج الأول لستة اشهر على الأقل، قبل ان يبدأ أي علاج نفسي او تأهيلي جاد، وما يمكن أن يقدم لها الآن هوعلاج داعم فقط بعد الشهر الاول من العلاج الدوائي.
لقد صار مذهب الحرية السلوكية يطغى على تصور حالات الاضطراب والمرض النفسي، وهذا بحد ذاته يحمل توجهاً مسيئاً وقد يكون مؤذياً للمرضى بشكل حاد، علماً ان القاعدة العلاجية النفسية الأولى (لا اذى) No Harm ، لأنك حين تمارس اي اشكال من التدخلات العلاجية في غير مكانها فسيكون ذلك سبباً في عوارض جانبية، هذا اذا لم يكن مؤذياً بالكلية، ولو عدنا لخطاب كارل روجرز عن (آلين ويست) واخذنا فعلاً برأيه في طريقة العلاج لوجدناها انتحرت قبل خمس سنوات من التاريخ الذي انتحرت به، في حال تركت بدون علاج دوائي، وتم اجراء علاج نفسي إنساني بطريقة كارل روجرز.
خلاصة الموضوع هنا، ان المذهبية النفسية بين حرية وحتمية السلوك تجعل المنظور السلوكي مختلف جداً، اضافة الى ان هنالك فرق كبير بين العلاج النفسي حين يكون ذو مرجعية علمية بحثية رصينة، مقابل العلاج النفسي الذي تحكمه الفلسفة والمنظورات الفلسفية، وهذا سيكون بإذن الله عنوان مقالي القادم ضمن هذه السلسلة، والموسوم (العلاج النفسي وأثر الإطار المرجعي الحاكم للنظرية والتطبيق) بإذن الله.
🖋 د. يوسف مسلم | استشاري العلاج النفسي
صانع المجد

0 تعليق